الجمعة 00 يوليو 0000 - الساعة:00:00:00
بعد اسبوع في أوربا شاهدت وعايشت فيه كيفية إقامة وحدة حقيقية ، انا الذي جاء من بلد يتشدقون فيها بالوحدة وبينهم وبينها مسافة كالمسافة التي تبعد بين الارض والمريخ .. هذا الأسبوع الذي عشته في حضن وحدة حقيقية يجعل اي عاقل جنوبي يشعر انه حان الوقت لاستعادة الجنوب وبناء دولة مدنية حديثة بعد إيجاد حل عادل للقضية الجنوبية وتحديد مستقبل العلاقة بين الشمال والجنوب بعيدا عن العواطف التي قادتنا من وحدة الى كابوس.
ركبت القطار صباح امس من مدينة كابوشفار المجرية في طريقي الى العاصمة بودابست والتي منها استقليت الباص لبدء رحلة العودة الى لندن وصلت منفذ دوفر عبر النفق وقابلتني موظفة الهجرة وألقت نظرة سريعة على جوازي وقالت ( welcome home Sir ) مرحبا بموطنك سيدي مع اني طول عمري ما سمعت من اي موظف هجرة في اليمن هذا الترحيب إطلاقا ، بل على العكس البعض منهم يلتفت إليك ويقول ( ايش جابك البلاد من حق ام الصبيان ) وهنا تبدأ صدمتك من معاناة بترحيب كهذا ..
كانت رحلة مفيدة ورائعة وفي وقت مناسب استكشف فيها اشياء كثيرة تعينني في عملي السياسي والإعلامي ، رحلة استعدت فيها ذكريات زياراتي الى المجر التي لم احصيها منذ ان كنت طالبا في الاتحاد السوفيتي ، كنت حينها وفي عهد القطبين الدوليين الاشتراكي والرأسمالي ازورها عند كل اجازة اما صيفية او شتوية للقاء بأخي الدكتور سعيد الذي استقر فيها طبيبا أخصائيا في علم التشريح ( باتا لوجيا ) - استقر اخي في القطب الاشتراكي واستقريت في القطب الرأسمالي وفي بريطانيا تحديدا .. اذهلتني المجر التي لا تمتلك مواردا لا نفطية ولا غازية ومع هذا لم تنهار كما انهارت دولا اشتراكية عدة .. استطاعت المجر التوازن وعدم الهرولة الى الرأسمالية وتسليمها كل شي مقابل الدخول في الاتحاد الاوربي والتمتع بمزايا الانضمام لعضويته ، رفضت تذويب عملتها الفورينت مقابل اليورو حتى لا يختل دخل الفرد المجري مع اقرانهم في دول منطقة اليورو ، كما حدث في الجنوب بعد الوحدة عندما هبط دخل الفرد عندما تنازل الرفاق عن الدينار ، بل حافظت المجر على العملة وفتحت سوق تداول اليورو مثله مثل بقية العملات العالمية دون إلغاء عملتهم الرسمية ودون احداث خلل كبير بفارق الدخل بين المواطن المجري والاوربي .
رجالات السياسة في المجر لم يسلموا رقاب شعبهم للاتحاد الاوربي كما هرول ساستنا الاشتراكيين الى الوحدة مع الشمال بمجرد بدء مرحلة البريسترويكا الروسية مع بروز مؤسسها ميخائيل جو باتشوف .. القبائل المتمركسة في الجنوب لم يكونوا رجال دولة بالمفهوم الصحيح للمناصب التي تقلدوها .. فبمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي انهار الاشتراكي في الجنوب وكأنه فقد كفيله الذي كان يعتمد عليه كثيرا ..
تماسك المجريون مع انهيار الشيوعية لانهم وبكل بساطة لم يسلموا أمور بلادهم للروس الا عسكريا .. في ما كان الساسة الجنوبيين يتصارعون في تقديم الولاء لموسكو قبل الولاء لعاصمتهم عدن وشعب الجنوب الذي حكموه.
لم اهدف في هذه المقدمة الى قلب مواجع تاريخ الجنوب ومن حكمه ومن يتصدروا الحراك منهم اليوم ، بل هدفت التوضيح ان العقول السياسية هي من تستطيع التعامل مع المتغيرات المحيطة إقليميا ومحليا .. وللأسف من هرولوا الى الوحدة لم يكونوا برجال دولة حقيقيين لانهم لم يتأنوا في قرارهم ولم يقيموه استراتيجيا لا سياسيا ولا اقتصاديا ، ناهيك انهم لم يحترموا الإرادة الشعبية ليقول الشعب كلمته .. من قادونا للوحدة يسخرون بعقولنا في قيادتنا للانفصال ..
ينعم المجريون اليوم بحياة مستقرة فلا هي رأسمالية ولا اشتراكية ، مستقرة أمنيا حتى النزعات العنصرية ضد الأجانب تلاشت منذ ان جاهرت منظمات متطرفة في مطلع التسعينات.
الوحدة التي حققتها المجر مع الاتحاد الاوربي كانت متأنية حافظت فيها على مصالح وحقوق مواطنيها ، واستطاعت الحصول على مساعدات الاتحاد الاوربي لتأهيل مؤسساتها وفقا للمعايير الأوربية لأعضاء الاتحاد وحصلت على مساعدات كبيرة في الجانب الصحي والتعليمي ..
لا اقول هذا الا من غصة في القلب بسبب وحدتهم ووحدتنا .. تأنيهم وهرولتنا .. اصبح المواطن المجري يطوف كل أوربا ويستطيع الإقامة والعمل دون ان يشعر بأية مشكلة .. أصبحت أوربا بيتا واحدا وشوارعا واحدة تمر بها دون نقاط ولا عسكر ولا نخيط .. فقط لغة البلد التي تشاهدها على لوحات المرور التي ترشدك الى الوجهة التي تريدها هي التي تعرفك في اي بلد انت .
سأعود الى لندن بعد ان استمتعت بالوحدة الحقيقية بين الشعوب والدول التي يضع المسؤولين فيها مصالح مواطنيه قبل مصالحته الشخصية .. للأسف الوحدة اليمنية قد فشلت فشلا ذريعا بحكم الشرخ العميق الذي أحدثته ممارسات عصابة الحكم في صنعاء .. لم يعد هناك مناص والاعتراف وبكل شجاعة ان الوحدة قد انتهت بين الشمال والجنوب وان ما هو قائم الا محاولات يائسة للنفخ في جثة هامدة .. فلن ينفع القتل ولا الاعتقالات ولا الترهيب ولا الترغيب لإعادة الروح لجسد مقتول بالفساد والأجرام والظلم وإهانة الناس وإذلالهم .. الجنوب خسر كل شي ويريد استعادة هويته وتاريخه وسيادته على ارضه .. وقبل ان نلوم الآخرين علينا ان نلوم انفسنا اولا .. ماذا نريد وما هي أولوياتنا وهذا ما سيتم تحديده والعمل مع العقلاء عند عودتي الى عدن قريبا عندها سيكونا لنا ما نريد وانتزاعه دون الحاجة الى التودد والاستعطاف .. في قضايا الشعوب المصيرية نحتاج الى الإرادة والعقل السياسي .. دونهما سيظل الحراك يراوح مكانه .
