2025-05-03 22:39:20
الجنوب في مرمى الابتزاز السياسي: عدن تدفع ثمن استقلال قرارها

عدن، المدينة التي طالما كانت منارة للحرية والتنوع والتطلعات الوطنية، تعيش اليوم واحدة من أسوأ محطّات تاريخها الحديث. في كل زاوية من زواياها، هناك قصة ألم ترويها أزمة متفاقمة، من تدهور الخدمات العامة إلى الانهيار الاقتصادي وانعدام الاستقرار السياسي. لكن ما يجري في عدن ليس مجرد نتيجة طبيعية لظروف صعبة أو أزمات متراكمة، بل هو انعكاس واضح لصراع أكبر، تُوظّف فيه المعاناة كسلاحٍ في لعبة سياسية إقليمية ومحلية تهدف إلى إنهاك الجنوب وقمع إرادته.

ما يعيشه المواطن الجنوبي اليوم من انقطاع دائم للكهرباء، شحّ في الوقود، توقف في صرف المرتبات، وارتفاع جنوني في أسعار المواد الأساسية، لم يعد مجرّد "وضع طارئ"، بل تحوّل إلى حالة مستمرة تُستخدم كأداة للابتزاز والضغط، لإعادة تشكيل مواقف الجنوب السياسية، أو على الأقل، إجباره على القبول بواقع لا يعكس تطلعاته.

*الفشل في إدارة الأزمة: بين العجز والتواطؤ*

حين يُطرح السؤال عن المسؤول عن هذا الانهيار، لا يمكن تجاوز الحكومة الشرعية التي، رغم الدعم الإقليمي والدولي الهائل، فشلت في تقديم أي حلول حقيقية تُخفف من معاناة المواطن. هذه الحكومة التي يُفترض أن تكون مظلّة لحماية عدن وبقية مدن الجنوب، باتت أشبه بجسم مشلول، عاجز عن إدارة الملفات الأساسية، ومتورط – بوعي أو بغير وعي – في ترك الجنوب يواجه مصيره منفردًا.

التنسيق بين المؤسسات معدوم، والقرارات المرتبطة بالوضع الخدمي تتخذ بطريقة عشوائية لا تُراعي الظروف الإنسانية أو الاحتياجات الملحّة. والأسوأ أن المواطن يدفع وحده ثمن هذه الفوضى، بينما تزداد الطبقة السياسية غرقًا في خلافاتها وصراعاتها على السلطة.

*الضغوط الإقليمية والدولية: مصالح تتقدّم على حياة الناس*

ما يجري في عدن ليس معزولًا عن السياق الإقليمي والدولي. التدخلات الخارجية باتت أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، والأجندات المتضاربة التي تعبث بمصير الجنوب تحوّل عدن إلى ساحة تجاذب مفتوحة. فكل طرف يبحث عن موطئ قدم، سواء عبر دعم قوى بعينها، أو عبر خنق الخدمات، أو حتى عبر تأخير أو منع المساعدات.

الواقع يؤكد أن عدن أصبحت ورقة سياسية على طاولة القوى الإقليمية، يتم استخدامها كلما احتدم الصراع أو احتاجت الأطراف إلى تقديم رسائل ضغط متبادلة. أما المواطن الجنوبي، فلا مكان له في هذه الحسابات، إلا كمتضرر دائم أو وقود في معركة لا يد له فيها.

*النخبة السياسية... انقسامات تعيق الحلول*

واحدة من أبرز الإشكاليات التي تعمّق أزمة الجنوب تتمثل في حالة التشرذم التي تعيشها النخبة السياسية. الانقسامات الحادة بين مكونات الشرعية، والخلافات داخل القوى المناهضة للمجلس الانتقالي الجنوبي، خلقت مناخًا سياسيًا هشًا، يفتقر لأبسط مقومات الاتفاق على القضايا الجوهرية.

بدلًا من تشكيل جبهة جنوبية موحدة تضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار، نجد أن الصراعات الحزبية والتنافس على النفوذ يحكم المشهد. وهذا التشرذم لا ينعكس فقط في مواقف النخبة، بل يمتد ليؤثر في المزاج الشعبي، ويُغذي الانقسامات الاجتماعية، ويُضعف الثقة بأي مشروع وطني جامع.

*الانتقالي الجنوبي: بين الضغط والفرص*

المجلس الانتقالي الجنوبي، باعتباره القوة السياسية الأبرز في الجنوب، يواجه بدوره تحديات ضخمة. فقد أصبح في مرمى النيران السياسية والاقتصادية، بين ضغوط الداخل المتصاعدة، وتكتيكات الخارج التي تهدف إلى كبح نفوذه.

ورغم أن الانتقالي يُعد الجهة التي تعبّر بشكل أو بآخر عن تطلعات الجنوبيين في استعادة دولتهم، إلا أن الموقف يتطلب منه تطوير آلياته السياسية، وإعادة النظر في أدوات المواجهة، وتوسيع قنوات التفاهم الداخلي لتجاوز حالة العزلة الجزئية التي يعيشها في بعض الجوانب.

القوة وحدها لا تكفي، فالمطلوب اليوم هو مشروع إداري واقتصادي واقعي، قادر على الصمود أمام الضغوط، وقادر كذلك على تقديم نماذج نجاح في الملفات الخدمية والإدارية، ليربط المواطن بين القيادة والمردود الفعلي في حياته اليومية.

*الإدارة الذاتية: الخيار الصعب... والضرورة المحتّمة*

في ظل الانهيار العام، عاد الحديث بقوة عن مشروع "الإدارة الذاتية" كخيار يطرحه كثير من الجنوبيين كحلّ اضطراري لإيقاف النزيف. لكن هذه الإدارة، إذا ما قُررت، لا يمكن أن تُدار بعقلية ردّ الفعل أو تحت تأثير الغضب الشعبي فقط.

الإدارة الذاتية الناجحة تتطلب بنية تحتية سياسية ومؤسسية متكاملة، وتوافقًا واسعًا بين مكونات الجنوب، بالإضافة إلى رؤية اقتصادية واضحة ودعم خارجي محترف. وهو ما يجعل المسار صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. بل قد يكون الطريق الوحيد المتاح أمام الجنوبيين لاستعادة الكرامة الإدارية والاقتصادية، إذا ما استمرّت الحكومة في التنصّل من مسؤولياتها.

*ختاماً: الجنوب لا يموت... بل يُولد من الألم*

رغم قسوة المرحلة، لا يزال الجنوب حيًا. لا تزال عدن – برغم الجراح – تقاوم. فالشعب الذي عاش الحروب، وخاض معارك الهوية والسيادة، لن يُهزم أمام انقطاع الكهرباء أو ارتفاع الأسعار.

قد تكون الأزمة اليوم معقدة، وقد يبدو الأفق مسدودًا، لكن في عمق المعاناة تُولد الإرادة. الشعب الجنوبي لا يبحث عن الشفقة، بل عن الحق. ولا يطلب المستحيل، بل يريد فقط أن يعيش بكرامة، في وطنٍ يحكمه أبناؤه، ويُصاغ قراره من الداخل، لا من خلف الستار.

قد تطول الطريق، وقد تشتد الأزمات، لكن التاريخ يُكتب بالصبر والدموع، قبل أن يُكتب بالنصر. وعدن، كما الجنوب، ستنهض، لأن الشعوب التي تعرف طريق الحرية، لا تموت، بل تولد من جديد... أقوى.

http://alomana.net/details.php?id=242454