آخر تحديث :الجمعة 04 يوليو 2025 - الساعة:12:47:55
الذكرى الـ 44 لرحيل الشاعر الكبير لطفي جعفر امان
أ.اديب صالح مبارك

الجمعة 00 يوليو 0000 - الساعة:00:00:00

الأيام الأخيرة في حياة الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان، كما يرويها شقيقه المرحوم فتحي جعفر أمان.

ما كنا نصدق أن الألم الخبيث الذي داهم شقيقي الحبيب لطفي سيؤدي بحياته، كنا نظن أنها وعكة طارئة ستنقشع ، ولكن خاب ظننا فيما بعد عندما علمنا بأن مرضه خبيث ولا يسعنا إلا أن نتوجه جميعاً إلى المولى عزَّ وجل داعين من قلوبنا أن يخفف عنه الآلام ويرعاه ويحفظه ولكن لا مفرَّ من مشيئته ، فقد اختاره إلى جواره.

كانت إحدى الأمسيات وكنت معه كعادتي ، كنت جالساً وكان هو يرتدي ملابسه، قال لي: سأذهب إلى التلفزيون، قلت : إذاً سأشاهدك من تلفزيون منزلي .. ابتسم ابتسامته الحنونة . كنت منتظراً أمام التلفزيون، ولكنه لم يظهر ! قلتُ ماذا حدث ؟ فهرولت إلى خارج منزلي، وركبت سيارتي ورجعت ثانية إلى منزله .. قابلتني زوجته، وسألتها عنه فقالت إنه رجع من مبنى التلفزيون (تعبان) ولم يستطع إلقاء قصيدته .. وفي تلك اللحظة سمعته يكح ، فتقدمت إلى غرفة نومه فوجدته ممتداً على سريره ، وعندما رآني ابتسم كعادته ، سألته بماذا يشعر ؟ قال بصوته الشاعري الحنون : شيءٌ غريب يضايقني في صدري، وأغلب الظن أنه زكام (انفلونزا) سيزول، قلت : إن شاء الله، فأغمض عينيه، وعرفت أنه يريد أن ينام أو على الأقل يرتاح .. فانصرفتُ وعدتُ إلى منزلي.

كان – رحمه الله – مخلصاً لعمله ووطنه، فقد شاهدتُه في اليوم الثاني وهو بمكتبه في وزارة التربية والتعليم، حيث كان يعمل وكيلاً للوزارة، شاهدته وهو يباشر عمله ويستقبل عشرات الأشخاص ويردُّ على المكالمات التلفونية .. فاستغربتُ لأنه كان بالأمس يعاني من ألم اضطره إلى الرجوع من مبنى التلفزيون إلى منزله.

وجلستُ أمامه مع بعض من كبار المسؤولين في الوزارة لنستلم منه الأوامر والتعليمات، ولايعرف أحدٌ من الحاضرين بأنَّ هذا العملاق الذي يجلس أمامهم، والذي كان يبدو عليه الاهتمام لما بين يديه من ملفات مفتوحة وملفات متراكمة يعاني من ألم خبيث، حتى هو نفسه لم يكن مدركاً لذلك، فكان يوزع نفسه توزيعاً لعمله وأدبه وشعره .. لحكومته ووطنه .. لأسرته وأحبائه وأصدقائه.

كان معروفاً بمعنوياته العالية والعالية جداً، كان يخفي آلامه، وعندما تداهمه الآلام يبتسم لمن حوله ويقول إنه مجرد ألم بسيط.

لم يتمكن من مواصلة عمله في ذلك اليوم، فقد اضطر إلى مغادرة المكتب في الوزارة قبل نهاية وقت العمل، وكان يجامل ويبتسم وهو في طريقه إلى سيارة الوزارة التي كانت تنتظره، ويتوقف أحياناً ليُمضي لهذا ويتحدث لذاك .. حتى ركب السيارة.

وفي حوالي الساعة الثانية عشرة ظهراً من نفس اليوم اتصلتْ بي حرمه هاتفياً في مكتبي في الوزارة تخبرني بأن أصل إليهم بعد انصرافي من العمل.

دخلتُ عليه في غرفة نومه وكان ممتداً على فراشه ، قلتُ لزوجته: خير إن شاء الله ؟! فسمع صوتي وفتح عينيه ونظر إليَّ، وقال: أريدك في المساء عندي؛ فعرفتُ من زوجته بأنه يفكر في الاتصال بأحد الأطباء من أصدقائه.

وفي المساء حضر الدكتور عبدالله عبد الولي مدير مستشفى الجمهورية والدكتور عرمان، وعملا له العلاج الضروري من حقنه في أحد الأوردة في اليد، وأعطياه دواءً وكتبا له أسماء بعض الأدوية ، وعندما استفسرتُ منهما عن حالته قالا لي إنها وعكة ستزول ( نزلة شعبية ).

وفي مساء اليوم الثاني سمعت الدكتور عبدالله عبد الولي يتكلم بالتلفون من منزل لطفي مع إدارة المستشفى يقول : احجزوا غرفة درجة أولى للأستاذ لطفي جعفر أمان، فعرفتُ حينذاك بأن لطفي سينقل إلى المستشفى.

فاعتذر لطفي من أن ينقل إلى المستشفى في تلك الليلة وسمعته يقول للدكتور عبدالله عبد الولي سأنهي أولاً بعض أعمالي الهامة في الوزارة، وبعدها سأمتد على سرير المستشفى.

نُقل لطفي إلى مستشفى الجمهورية، وكان ذلك في يناير (1971 م)، وكان الجميع يظنون بأن مرضه (انفلونزا)، حتى بعض الأطباء أنفسهم ظنوا ذلك، وقال بعضهم ربما تكون (نامونية) ولن يتمكنوا من تشخيص المرض إلا بعد (الأشعة) بعد أن أخذوا عدة صور في الأشعة، ومنها عرف الدكتور محمد مهيوب سلطان بأن لطفي يعاني من مرض في (القلب)، وأن هناك التهابات في تيمور القلب، أي الغشاء بسبب رواسب من الدماء فيه .. إذاً لطفي مريض (بالقلب !!).

دخلتُ عليه غرفته في المستشفى، وكانت الغرفة مزدحمة بالأهل والأصدقاء .. انحنيتُ لأطبع قبلة على جبينه وهو ممتد على السرير، مسكني وهمس في أذني بصوت حنون قائلاً: أنا مريض بالقلب.

قلتُ له: سلامات على قلبك، سيزول هذا المرض إن شاء الله؛ فابتسم .. وإذا بالزوار من مختلف فئات الشعب يتدفقون إلى مستشفى الجمهورية لزيارته والاستفسار عن صحته، ومنهم الأهل والأصدقاء والأحباء.

وإذا بالأخ علي ناصر محمد رئيس الوزراء الذي كان حينئذٍ وزيراً للدفاع ينزل أيضاً في مستشفى الجمهورية ليمتد هو أيضاً في سرير وبغرفة قريبة من غرفة لطفي، وعندما علم بأن لطفي مريض كان يستفسر عنه دائماً، ومعظم الأوقات يذهب بنفسه إليه وكان يهتم اهتماماً كبيراً بصحة لطفي.

وعندما بدأ يشتدُّ المرض على لطفي كان يزوره أكثر من مرة في اليوم بالرغم من أن صحته تدعوه للراحة التامة.

وفي أحد الأيام اشتدَّ المرض على لطفي حتى راح في غيبوبة، ولم يكن يدرك بمن حوله من الأهل والأحباء والأصدقاء، وكان الجميع يذرفون الدموع ويبتهلون إلى الله أن يخفف الآلام عنه، واستدعي الدكتور محمد مهيوب سلطان من منزله، وعندما حضر وفحص لطفي تغيرت ملامحه تماماً وعرف الجميع ممن كانوا حاضرين بأن لطفي ( تعبان ) .. وخرج الدكتور محمد مهيوب وأشار إليَّ بأن أتبعه، وعندما تبعته إلى إدارة المستشفى القريبة من غرفة لطفي كانت دموع الدكتور أكثر تعبيراً في تلك اللحظة لأنها سبقت كلماته، وقال لي بصوت منخفض حزين: سنحاول في هذا المساء إخراج بعض الدماء المتراكمة من غشاء قلب لطفي المريض، وإن شاء الله يكون خير.. ولكني استحلفته أن يقول الحقيقة، فقال لي: لن أخفي عليك إن لطفي (تعبان).

شعرتُ ساعتها بأن الدنيا تدور حولي ولم أتمالك نفسي، فقد بدأت الدموع تنهمر من عينيَّ، وبقيت برهة متمسكاً بالحائط وإذا بي بعدها أنفجر بالبكاء.

دخلتُ غرفة شقيقي لطفي والناس حوله، وجلستُ بجانبه أتأمل وجهه الحبيب، وكان ممتداً على السرير في شبه غيبوبه؛ لا ولن أنسى تلك اللحظة الرهيبة عندما فتح عينيه فجأة والتفت نحوي وقال لي بصوت منخفض: "أنا تعبان"، فمسكت يده أشجعه، ولكنه أغمض عينيه مرة أخرى وراح في غيبوبته.

وفي المساء حضر إلى مستشفى الجمهورية كل من الأخ سالم ربيع علي رئيس مجلس الرئاسة والأخ محمد علي هيثم رئيس الوزراء حينذاك والأخ محمود عشيش نائب رئيس الوزراء للأمور المالية والأخ علي سالم البيض وزير الخارجية حينذاك والأخ محمد صالح مطيع وزير الداخلية والأخ علي عنتر قائد الجيش ونائب وزير الدفاع ومعهم الأخ علي ناصر محمد الذي كان يومها وزيراً للدفاع، وعدد من رجال التنظيم، جاءوا لزيارة الأخ علي ناصر محمد الذي كان ينزل للعلاج في المستشفى، وقد رافقهم الأخ علي ناصر لزيارة لطفي المريض .. حضروا إلى غرفة لطفي في الوقت الذي تجري فيه الاستعدادات لإجراء عملية سحب الدماء المتراكمة.

وبعد انتهاء العملية بدأ لطفي يشعر بمن حوله ويتكلم معهم بأسلوبه الأدبي الشاعري وبمعنوية عالية جداً، بالرغم من تدهور صحته.

وفي مساء اليوم الثاني جاء الأخ سالم ربيع علي رئيس مجلس الرئاسة والأخ علي عنتر قائد الجيش لزيارة لطفي مرة ثانية، وارتاحا عندما شاهدا لطفي في تلك الساعة صحته تدعو للارتياح، وقرر الأخ سالم ربيع علي بأن يسافر لطفي للعلاج على نفقة الرئاسة، وخيروه البلاد التي يختارها ليعالج فيها، فاختار _ رحمه الله _ مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.

غادر شقيقي عدن إلى بيروت في اليوم الثاني من قرار الأخ رئيس مجلس الرئاسة والأخ علي ناصر محمد وزير الدفاع، تصحبه زوجته للعلاج، وكان ذلك في (8) فبراير (1971م) بعد أن مكث شهراً في مستشفى الجمهورية في عدن.

في مستشفى الجمهورية كان يزوره دائماً الأخ عبدالله عبد الرزاق باذيب وزير التربية والتعليم مع كبار المسؤولين في الوزارة، والأخ عبدالله عبد الرزاق تربطه صداقة وزمالة من عهد طويل بلطفي، وكان كثير الاهتمام بأخبار لطفي.

وصلتنا الأخبار عن علاج لطفي في مستشفى الجامعة الأميركية وكان شبيهاً بالعلاج الذي قام به الدكتور محمد مهيوب سلطان، وهو سحب دماء من غشاء القلب.

غادر لطفي مستشفى الجامعة الأميركية بعد أن سمح له بمغادرته واستأجر شقة (بالروشة) أحد شوارع بيروت، وكان يواصل العلاج بالذهاب إلى المستشفى، ولكن الآلام الخبيثة بدأت تعاوده فنصحه الأطباء بالرجوع إلى المستشفى لإجراء عملية دقيقة جداً، ولكنه فضَّل الرجوع إلى عدن للتشاور مع الحكومة للذهاب إلى بلدة أخرى صديقة.

عاد إلى عدن تصحبه زوجته في (20 مارس 1971 م)، ومكث في عدن حوالي اثني عشر يوماً وكانت الآلام تداهمه في معظم الأحيان، ومنها فضَّل الذهاب إلى جمهورية مصر العربية والنزول في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي، وكان ذلك على نفقة الحكومة.

نزل في مستشفى المعادي وخُصص له جناح خاص في المستشفى، وكانت برفقته زوجته، وبذل الأطباء كل جهد لإنقاذ حياته، وأجريت له عملية في غاية الخطورة على يد الدكتور عبد القادر منصور كبير جراحي أمراض القلب، وبعد أن عمل الأطباء كنسلتو قرروا أن يبعثوا لطفي إلى لندن لإجراء العملية، ولكن لطفي أصرَّ على أن تجرى له العملية في المستشفى نفسه وعلى يد الدكتور عبد القادر منصور. وكانت العملية شبه ناجحة، فقد اتضح بأن القلب سليم مائة بالمائة وأن تيمور القلب (الغشاء) صار طبيعياً، ولكن هناك ورم في الحاجز الأيمن من الصدر، فقد استأصل منه الدكتور الجراح نصفه وبقي النصف الآخر لأنه متصل ببعض الأوردة المتصلة بالقلب، وكانوا يحرقونه بالأشعة الذرية من بعد العملية، ولكنهم توقفوا عن ذلك لأن الأشعة بدأت تضر بصحة لطفي.

وكانت التقارير والخطابات التي تصلنا تشير بأن صحة لطفي في تقدم؛ حتى خطابات لطفي التي كنا نستلمها وهي مكتوبة بخط يده كانت تدل على كل خير، ولكن مشيئة الله فوق كل شيء، فقد اختاره الله إلى جواره بعد إجراء العملية بأربعة أشهر وبعد أن كان الجميع يترقبون عودته.

كانت وفاته في صباح الخميس الساعة الواحدة بتاريخ (16 ديسمبر 1971م) .. رحمة الله عليه رحمة الأبرار.

كنتُ على علم بتدهور صحته في اليومين الأخيرين من وفاته، فقد سرني أحد المسؤولين الكبار في يوم الثلاثاء (14 ديسمبر 1971م) بأن صحة لطفي تدعو للقلق، وقد أزعجني الخبر وكدت لا أصدق ما قيل لي، ولكنَّ شخصاً آخر في وزارة التربية كذَّب الخبر وقال بأن صحة لطفي في تقدم ولا داعي للقلق، وأظن أنه كان يحاول أن يخفف عني القلق والخوف الذي بدأ يراودني نحو شقيقي لطفي.

ولكن في صباح الخميس في الساعة الحادية عشرة والربع اتصل إلى مكتبي في الوزارة هاتفياً الأخ محمد هادي عوض وكيل وزارة الخارجية يخبرني بأنه استلم عدة برقيات من سفارتنا في جمهورية مصر العربية بخصوص صحة لطفي، كما أخبرني بأنه كلف الآن بأن يخبرني بأن لطفي تعبان جداً جداً، ولم أستطع أن أتمالك نفسي فانفجرت بالبكاء كالطفل.

وفي مساء نفس اليوم كنا نتلقى كلمة (العزاء) على الهاتف من الأخ محمد هادي عوض وكيل وزارة الخارجية، ومن مكتب دار الرئاسة ومن كبار المسؤولين في الدولة والأهل والأصدقاء ثم بعدها استلمنا برقية عزاء بوفاته من عبدالله جعفر مرزا وحرمه، وتلتها البرقيات وخطابات التعزية، فقد استلمنا برقية عزاء من الأخ أحمد عبدالله عبد الإله وزير التربية والتعليم، والأخ عبدالله عبد الرزاق باذيب وزير الثقافة والسياحة ثم وصلتنا برقية الرئيس سالم ربيع علي رئيس مجلس الرئاسة من سيئون، وغيرها من البرقيات التي تدفقت من مصر وعدن.

وكانت صدمة كبرى .. يالهول الفاجعة .. ياللخبر المشؤوم الذي جاء عبر الأثير يحمل الفاجعة إلى قلوبنا، فقد أذاعت الخبر محطة عدن ومحطة تلفزيون جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في موجز الأخبار في نهاية الإرسال، وقد ازدحم شارع المعري في كريتر – عدن تحت منزل سيدي الوالد الذي كان في شبه ذهول ازدحم بالأهل والأحباب نساءً ورجالاً .. أستغفره تعالى ولا اعتراض على حكمه.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص