آخر تحديث :الاربعاء 21 مايو 2025 - الساعة:23:15:18
الاستقلال الجنوبي الثاني.. استحقاق لا استثناء
هاني سالم مسهور

الاربعاء 21 مايو 2025 - الساعة:13:14:36

في مثل هذا اليوم، الحادي والعشرين من مايو، قبل واحدٍ وثلاثين عامًا، أطلق الرئيس علي سالم البيض صرخة الجنوب المدوية، لا انسحابًا من وحدة مغتصبة، بل إعلانًا للميلاد الثاني لوطنٍ لم يُخلق إلا حرًّا،  لم يكن ذلك اليوم مجرّد حدث سياسي، بل لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، فاصلاً حاسمًا بين زمنين: زمن الضم والإلحاق، وزمن اليقظة والكرامة الوطنية، التي ما لبثت أن تحوّلت إلى مسار طويل من النضال والتحدي والمراكمة السياسية.

اليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود، لا يمكن النظر إلى القضية الجنوبية إلا باعتبارها واحدة من أكثر القضايا رسوخًا في وجدان شعبها، ومن أكثرها صلابة في مواجهة مشاريع الإنكار والطمس والاختراق،  فمنذ اللحظة الأولى التي أُطلقت فيها شرارة الرفض، وحتى آخر لحظة في جبهات الدفاع عن الأرض، راكم الجنوبيون وعيًا استثنائيًا، تجلّى في وحدة الخطاب الشعبي وتماسك الهوية السياسية، وتحوّل إلى سد منيع أمام محاولات الالتفاف والتفكيك.

لقد كانت كل مرحلة من المراحل النضالية، من انتفاضات المكلا، إلى الحراك السلمي، إلى لحظة التحرير المجيدة للعاصمة عدن في يوليو 2015، ثم تحرير المكلا في 2016، وصولًا إلى تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي، محطات شكلت حلقات متصلة في مسار صاعد، لا يعرف التراجع، ولا يقبل الاستكانة،  وتحوّل الحراك الجنوبي من فعل احتجاجي، إلى مشروع سياسي، ومن خطاب مظلومية، إلى رؤية حكم،  وهو اليوم يخطو نحو بناء دولة وطنية جامعة، تقوم على أُطر دستورية تُكرّس التعددية والتعايش الديني والمذهبي، انطلاقًا من تاريخ الجنوب العريق كأرضٍ للتنوع والوسطية. فجنوب ما بعد الاستقلال لن يكون ساحةً للصراعات العقائدية، بل نموذجًا لليمن الجديد القائم على المواطنة واحترام حقوق الإنسان، ورفضًا لكل أشكال التطرف، سواءً من جماعات الحوثي في الشمال أو من بقايا تنظيمات القاعدة وداعش.

ولأن النضال الحقيقي لا يُقاس فقط بمقدار ما تحقق، بل أيضًا بمدى ما تم تحصينه، فإن الجنوب اليوم يقف على أرضية سياسية أكثر صلابة من أي وقت مضى،  فقد نجح في منع اختراق قضيته من الداخل، ورفض الانجرار إلى مشاريع الانقسام الجهوي أو المذهبي، وبنى لنفسه درعًا من الوعي الجمعي الذي يحميه حتى من أبنائه إذا انحرفوا عن الخط الوطني،  ولأن الجنوب أصبح شريكًا فاعلًا في المنظومة الدولية لمكافحة الإرهاب، بفضل نجاحه في تطهير أراضيه من خلايا التطرف، فإن دوره الإقليمي اليوم يتعدى حدود الجغرافيا،  فمدُّ يده للمجتمع الدولي لمواجهة تمدد الإخوان والحوثيين في شمال اليمن ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة أمنية،  لكن هذا الدور لن يكتمل إلا بتنفيذ بنود اتفاق الرياض 2019، وبخاصة خروج القوات الأجنبية من وادي حضرموت، لضمان سيادة الجنوب على قراره وأرضه.

إن الحصانة التي تتمتع بها القضية الجنوبية اليوم لم تأت من فراغ، بل كانت ثمرة تراكم تاريخي من المعاناة والتجربة، ومزيج من التضحيات والاختبارات، التي صقلت الموقف الجنوبي، وجعلت منه ركيزة تفاوضية أساسية في أي تسوية سياسية تخص مستقبل اليمن والمنطقة.

ما يميّز اللحظة الراهنة هو تلاقي الإرادة الشعبية مع النضال السياسي،  فلم يعد الجنوب مجرّد مطلب داخل الهامش السياسي، بل أصبح مركز ثقل في أي حوار أو تفاهم،  وهذا ما يجب تحويله إلى برنامج واقعي، يبدأ من الداخل الجنوبي ذاته، عبر إعادة تنظيم الصف، وترتيب البيت، وبناء مؤسسات الدولة التي نطالب باستعادتها.

إن استقلال الجنوب الثاني، الذي كان قبل سنوات يبدو حلمًا مؤجلًا، بات اليوم نتيجة منطقية لمسار طويل، لكنه أيضًا مهمة لم تكتمل،  فالسيادة لا تُعلن فقط، بل تُمارس، والدولة لا تُستعاد فقط، بل تُبنى من جديد، وهذا يضع على عاتق القيادات الجنوبية مسؤولية الانتقال من الخطاب إلى التخطيط، ومن الرفض إلى التأسيس.

 لقد أثبتت التحولات الإقليمية والدولية أن الصوت الجنوبي لم يعد معزولًا، بل أصبح حاضرًا في العواصم الكبرى، وأن القوى الكبرى باتت تتعامل مع القضية الجنوبية كملف مستقل له خصوصيته، لا كذيل لقضايا أخرى،  لكن هذه اللحظة تتطلب من الجنوبيين أن يقدّموا نموذجًا متماسكًا لإدارة الأرض والموارد والسياسة، لأن العالم لا يتعامل مع العدالة فقط، بل مع الجدوى.

إن المعركة اليوم لم تعد فقط مع الخصوم التاريخيين، بل مع تحديات ما بعد الانتصار: كيف نبني دولة عادلة؟ كيف نضمن الحقوق لكل مكون؟ كيف نمنع إنتاج أخطاء المركزية والفساد والتهميش؟ إن استقرار شمال اليمن وتحريره من سيطرة الجماعات الدينية المتطرفة ليس قضيةً شماليةً فقط، بل ضمانةٌ لأمن الجنوب واستقلاله،  فالمعادلة واضحة: لا استقرار للجنوب دون يمنٍ متحررٍ من الهويات المذهبية المدمرة،  وهذا يتطلب تعاونًا عربيًا ودوليًا جادًا، وإدراكًا بأن إعادة النظام الجمهوري في صنعاء مهمةٌ تخصُّ المنطقة بأكملها.

وعليه، فإن على المجلس الانتقالي الجنوبي، ومعه كل القوى الجنوبية المؤمنة بالمشروع الوطني، أن يبادروا إلى صياغة عقد سياسي جامع، يعيد تعريف الجنوب الجديد: جنوب الشراكة والمؤسسات والعدالة، لا جنوب التكرار أو الإقصاء،  وأن يُبنى هذا العقد على أساس الرؤية الدستورية، لا فقط على منطق اللحظة، ما جسدته الميثاق الوطني مهم أن يتحول إلى مشروع حياة يشعر به كل جنوبي في الوطن والمهجر.

إن العالم ينظر اليوم إلى الجنوب العربي باعتباره تجربة على المحك،  وإذا كانت هناك فرصة تاريخية لاستعادة الدولة، فهي مشروطة بقدرتنا على تجسيد هذا المشروع في مؤسسات قابلة للحياة، وفي علاقات خارجية متوازنة، وفي شرعية نابعة من الداخل.

الاستقلال الثاني للجنوب ليس حدثًا عاطفيًا، بل استحقاق تاريخي، ومسار نضالي، ومشروع سياسي، فليعلم العالم أن الجنوب لا يزال على العهد
رايته خفاقة، ودمه ممهور بالعزة، وصوته واحد
لا عودة إلى الوراء
الجنوب دولة، شاء من شاء وأبى من أبى

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل